العلاج البلدي
كما يمارس أهل دارفور أيضاً الرقى لتحقيق جميع هذه
الأغراض وغيرها. وهو ما يسمى بالكتابة. وهناك أشخاص يبيعون الورق وهو عبارة عن
كتابات مجلدة في شكل حجبات. وقد أشتهر بهذا النوع الفقرا خاصة الذين يسمون بأم بتارة
أو سياد السنينات (Sinyenyat). وقد أشتهر فقراء جبل كونو جنوب غرب زالنجي
بهذا النوع من الرقى. حيث يقال إنهم يتبارون فيه بأن يرسل أحدهم القدح لجلب
الإدام. وهناك العديد من قصص السجالات التي تحكى عنهم. وقد زارهم العديد من
المسئولين ورؤساء الحكومات الوطنية بل أن سمعتهم بلغت حتى خارج السودان. كما أن
هناك العديد من المجموعات السودانية تقول بأن جدهم كان فقيهاً وعالج بنتاً مصابة
بالجنون فقام بعلاجها وزوجوه لها. ومن ثم أنجب ذريتهم فصاروا يحملون إسمه. ويستعان
بالفقرا في القيام بدفن بعض الحجبات فى المزارع لإبعاد الآفات عنها وكذلك تلاوة
بعض الأدعية على التقاوي في ما يعرف بالعزيمة لمباركتها من الله ليحسن غرسها وينتج
نبتها محصولاً غزيراً. ويكتب للمولود الصغير حجاب أم الصبيان ويربط على إحدى يديه
أو رقبته ليحرسه وأمه من الشيطان ويحفظهما من أعين الناس. كما يربط أيضاً للأبناء
المختونين. وتربط عدة حجبات على رقبة الفرس أو الحصان. وتربط واحدة أو اثنان على
رقبة الجمل أو إحدى الأبقار نيابة عن المراح الذي تتبع له. ويلبس الرجال الحجبات
على أيديهم وراء كوعيهم أو يتوشحونها أو حول خصرهم. أما البنات فيلبسن حجاباً كبيرا
حول رقبتهم وتتدلى على صدورهن أو يتوشحنها ومعها بعض الحجبات الصغيرة. وجميعهم
يفضلون الجلد الأحمر أو الأبيض. وكثيراً ما يكتب الفقرا على الألواح الخشبية
بالدواية السوداء ويغسلونها بالماء في كوره ويشربها الشخص الذي كتبت له الحجبات.
وبعض الناس يلجأون للفقراء لتحقيق أغراضهم الخاصة مهما كانت حسنة أم شريرة وهو ما
يعرف بالمَسِكْ.
ويستخدم أهل دارفور الكي والفصد على أماكن محددة على اليد والزراع لمعالجة مرض الغيرغان الذى يسمونه أبو صِفََير أو لمرض الفكك وأورام الخريف في القدم أو الركبة. وكذلك يلجأون للحجامة باستخدام المحجم على ظهر الرقبة أو الصدر أو البطن لعلاج الحمى. كما يستخدمون أيضاً الكي بنار رؤوس سبع سعفات ملتهبات تسمى الحنكوك على الجفن الأعلى من العين لعلاج الرمد الطبيعي والرمد الربيعي. كما يحرقون بها الجبهة أو مؤخرة الرأس من الخلف لعلاج الصرعة التي يسمونها مرض أم فريحانه. ويعتقدون أنها شكل من أشكال الجنون.
ويستعين الناس ببعض النساء كبار السن الخبيرات في علاج قحة الأطفال التي تسمى أم كتبتى أو الكتكوته نسبة لأنها تدع الطفل يقح بصورة شديدة ومتواصلة وتزداد عنفاً باستمرار حتى يقع على جانبيه ويبدأ يحرك أطرافه خاصة الأرجل بصورة هستيرية ويقال أنه يكتكت أي يرتعد. كما أن مثل أولئك النساء وبعض الرجال أيضاً يمارسون ما يسمى بقطع الطير. والمقصود رأس اللهاة إذا أمتنع الطفل عن الرضاعة أو تناول المشروبات. وذلك باستخدام آلة المخرس لتثبيت الفكين حتى لا يتمكن الطفل من العض بأسنانه وأخذ بعض الدقيق المخلوط بالملح المسحون ودعك (حك) رأس اللهاة الملتهب بشدة حتى يخرج الطفل بعض اللعاب الكثير الشبيه بالصديد. ويقال أيضاً أن شرب لبن الحمير أو أكل لحم الضب المطبوخ بعناية دونما علم الطفل يعالجه من تلك القحة الشديدة والله أعلم.
وقد برع العديد من الأشخاص في علاج المويه البيضاء (Cataracs). بما يعرف بالتشليقه ومنهم من ألف كتاباً باسم التداوي بالقرآن. والذي نال جائزة الشهيد الزبير ومنح صاحب إجازة علمية من رئاسة القضاء السوداني1.
أما بالنسبة للجروح فأنهم يغسلونها وينظفونها بماء الملح ويضعون فوقها البامية الجافة المسحونة أو يزرون على الجرح دقيق ورق النبق (السدر). كما أنهم يضعون الزبدة على مكان إخراج الشوكة ويحرقونها بالنار حتى لا تلتهب. وهم في ذلك يرددون مثلهم القائل " الشوكة بسلوها بدربها" وكذلك قولهم " الحار ما بداوى إلا الحار" بمعنى كل شيء يعالج بطريقته المعروفة وإن كانت مؤلمة.
وبمثل علاجهم للبشر فأنهم يعالجون ماشيتهم كذلك. إذ أنهم
يغسلون جروح الأبقار والماعز ببول البقر ثم يزرون فوق الجروح مسحوق ثمار شجر القرض
المخلوط بالملح. أما بالنسبة للجمال والحمير والخيول فأنهم يمسحون جروحها بمادة
القطران الأسود. وكثير منهم يحقنون ماشيتهم بالأدوية التي يشترونها في السوق
الأسود من تجار الأدوية. هذا بالإضافة إلى اللجوء لمراكز خدمات العلاج البيطري
خاصة الكُرُور وهي جمع كَرْ. والكَرْ عبارة عن حظيرة مؤقتة تبنى من الحطب بطريقة
معينة وتدفع الماشية إلى داخلها وتحقن بالدواء من الخارج أثناء مرورها عبرها
بصورية فردية. غير أنهم لا يهتمون بالدجاج كثيراً ويدعونه على حاله فمن مات مات
ومن بقي يحيى.
هذه العلاجات وغيرها يمكن إخضاعها للبحث والدراسة
العلمية حتى يتم التأكد منها وتطوير أي جانب مفيد فيها والاستفادة منها في صناعة
العلاج الطبي الحديث الذى أثبت جدارته بدلاً عن محاربتها بلا سبب ودون جدوى. هذا
مع ملاحظة أن جمهوراً واسعاً من الناس يستخدمونها لمداواة الأمراض الشائعة رغم
المكانة المرموقة للعلاج الحديث ذي التكلفة المرتفعة. لكن مع ذلك لابد من إلتزام
الحيطة والحذر لخطورة بعض الأعشاب الطبية والتي منح بعض مستخدميها عيادات طبية من
قبل سلطات حكومة الإنقاذ في العاصمة الخرطوم.
ويقول دكتور دنيس لامبولاى: " للأعشاب الطبية تاريخ
طويل. فمنذ القدم لجأ الأطباء والسحرة والمشعوذون، من مختلف البلدان والثقافات،
إلى استخدام النباتات المتوافرة في بيئتهم الطبيعية لأهداف علاجية". الأمر الذي
يؤكد أن استعمال العلاج التقليدي قديم قدم التاريخ. خاصة في المجتمعات المتخلفة ما
بين (2737-2698 ق.م). وقد ورد ذكر العلاج بالأعشاب في المؤلفات الكلاسيكية الكبرى
مثل كتاب (Nei King) الذي يعتبر مقدساً في الطب الصيني كما يقول محمد
حسين شمس الدين الذى أوضح أنه قد اعتمد الصينيون القدامى على دستور الأدوية مثل
التدليك والوخز بالإبر والكى ولا يزالون حتى اليوم. وبالرغم من وجود المراكز
الكبيرة في بعض البلدان الأفريقية لإجراء التجارب حول الطب التقليدي وهو ما يعرف
بالطب الأسود إلا أن الطب الصيني يطرح أمامنا خيارات واسعة في مجال التداوي
بالأعشاب ويقدم لنا أكثر من خمسة آلاف وصفة علاجية.
وقد قامت في الخرطوم بعض المستشفيات الحديثة بمساعدة
الصينيين للعلاج الطبيعي مثل سوبا وأبى عشر. كما أسس الدكتور أحمد الصافي خريج
كلية الطب بجامعة الخرطوم والذى درس الفولكلور في معهد الدراسات الأفريقية
والأسيوية بجامعة الخرطوم مركزاً لدراسة الطب التقليدي بعد نجاحه في إقناع وزارة
الصحة الاتحادية ونقابات الأطباء والصيادلة ومجالسها العلمية بتغيير القانون الذى
وضعه الإنجليز مع إنشاء مشروع الجزيرة عام 1925م بدلاً من كونه ينص على محاربة
الطب الشعبي يحول إلى دعم أهمية تطويره. وقد تم بحمد الله صناعة بعض المضادات
الحيوية للأطفال في المصانع الوطنية للأدوية وأثبتت نجاحها خاصة السنسني (مشتق من
نبات محلى يعرف بذات الاسم ويستخدم لذات المرض).
ويستخدم الناس نبات السنسني لعلاج التهابات النزلة
بالنسبة للأطفال وقد تم إخضاعه للدراسات الطبية والتحاليل المعملية من قبل
الصيادلة وقامت إحدى الشركات الوطنية بالاستفادة منهم بصناعة فتيل المضادات
الحيوية للأطفال والذى يباع ويشترى في الصيدليات. كما تم أيضاً استخلاص حبوب
الخلين من بذرة الخل التي تباع في دكاكين التيمان لإخراج الحصاوى المزمنة من
الكلية والكبد وقد أثبت نجاحه. ويحكى الناس أيضاً عن استخدام ثمار نبات الضريسة
بدلاً عنه.
بالرغم من أن هذه العلاجات البلدية قد حققت نجاحات عديدة
إلا أنها أحياناً تعطى نتائج سلبية ويكون مستخدميها عرضة للهلاك وتصعب معالجتهم
بالطب الحديث بعد أن يكونوا قد بلغوا مراحل متأخرة من المرض. ذلك نظراً إلى ضعف الوعي
الصحي وعدم إلمام الناس بالمعلومات الطبية الحديثة وخضوعهم خضوعاً كاملاً لممارسي
هذا النوع من الطب البلدي.
1 عيسى أدم محمد فراس. التشليق بالقرآن.
مسودة كتاب نال جائزة الزبير للإختراع عام 2004م.
أترك تعليقك و رأيك الذي يضيف إلينا و نتعلم منه و نتطور